تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 99 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 99

99 : تفسير الصفحة رقم 99 من القرآن الكريم

** وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً * وَإِن يَتَفَرّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً
يقول تعالى مخبراً ومشرعاً من حال الزوجين تارة في حال نفور الرجل عن المرأة, وتارة في حال اتفاقه معها, وتارة في حال فراقه لها, فالحالة الأولى ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها, فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من حقها عليه, وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في بذلها ذلك له, ولا عليه في قبوله منها, ولهذا قال تعالى: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلح}, ثم قال: {والصلح خير} أي من الفراق, وقوله: {وأحضرت الأنفس الشح} أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق, ولهذا لما كبرت سودة بنت زمعة عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة, فقبل ذلك منها وأبقاها على ذلك.
(ذكر الرواية بذلك) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليمان بن معاذ عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يارسول الله, لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل, ونزلت هذه الاَية {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضا فلا جناح عليهم} الاَية. قال ابن عباس فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. ورواه الترمذي عن محمد بن المثنى, عن أبي داود الطيالسي به, وقال: حسن غريب. قال الشافعي: أخبرنا مسلم عن ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة وكان يقسم لثمان. وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة قالت: لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة. وفي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عروة عن عائشة نحوه.
وقال سعيد بن منصور: أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام, عن أبيه عروة, قال: أنزل الله في سودة وأشباهها {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراض} وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت, ففزعت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وضنت بمكانها منه, وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه, فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة, فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي وقد رواه أحمد بن يونس عن الحسن بن أبي الزناد موصولاً, وهذه الطريقة رواها الحاكم في مستدركة فقال: حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه, أخبرنا الحسن بن على بن زياد, حدثنا أحمد بن يونس, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة أنها قالت له: يا ابن أختي, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا, وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها, ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفزعت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم يارسول الله, يومي هذا لعائشة, فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت عائشة: ففي ذلك أنزل الله {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراض} وكذلك رواه أبو داود عن أحمد بن يونس به, والحاكم في مستدركه, ثم قال: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه. وقد رواه ابن مردويه من طريق أبي بلال الأشعري عن عبد الرحمن بن أبي الزناد به نحوه ومن رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن هشام بن عروة بنحو مختصراً, والله أعلم.
وقال أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي في أول معجمه: حدثنا محمد بن يحيى, حدثنا مسلم بن إبراهيم. حدثنا هشام الدستوائي, حدثنا القاسم بن أبي بزة, قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى سودة بنت زمعة بطلاقها, فلما أن أتاها جلست له على طريق عائشة, فلما رأته قالت له: أنشدك بالذي أنزل عليك كلامه واصطفاك على خلقه لما راجعتني, فإني قد كبرت ولا حاجة لي في الرجال, لكن أريد أن أبعث مع نسائك يوم القيام, فراجعها فقالت: فإني جعلت يومي وليلتي لحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا غريب مرسل. وقال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل, أنبأنا عبد الله, أنبأنا هشام بن عروة عن أبيه, عن عائشة {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراض} قال: الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل, فنزلت هذه الاَية.
وقال ابن جرير: حدثنا وكيع, حدثنا أبي عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة{وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير} قالت: هذا في المرأة تكون عند الرجل, فلعله لا يكون بمستكثر منها, ولا يكون لها ولد ويكون لها صحبة فتقول: لا تطلقني وأنت في حل من شأني. حدثني المثنى, حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا حماد بن سلمة عن هشام, عن عروة, عن عائشة, في قوله: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراض} قالت: هو الرجل يكون له امرأتان: إحداهما قد كبرت, أو هي دميمة, وهو لا يستكثر منها فتقول: لا تطلقني وأنت في حل من شأني, وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير وجه عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة, بنحو ما تقدم, ولله الحمد والمنة.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير عن أشعث عن ابن سيرين قال: جاء رجل الى عمر بن الخطاب فسأله عن آية, فكرهه فضربه بالدرة, فسأله آخر عن هذه الاَية {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراض} ثم قال عن مثل هذا فاسألوا, ثم قال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها, فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها, فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين الهسنجاني, حدثنا مسدد, حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب, عن خالد بن عرعرة, قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب, فسأله عن قول الله عز وجل {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهم}, قال علي: يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها, أو سوء خلقها, أو قذذها فتكره فراقه, فإن وضعت له من مهرها شيئاً حل له, وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.
وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن حماد بن سلمة وأبي الأحوص, ورواه ابن جرير من طريق إسرائيل, أربعتهم عن سماك به. وكذا فسرها ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد بن جبير والشعبي وسعيد بن جبير وعطاء وعطية العوفي ومكحول والحسن والحكم بن عتيبة وقتادة وغير واحد من السلف والأئمة, ولا أعلم في ذلك خلافاً أن المراد بهذه الاَية هذا, والله أعلم, وقال الشافعي: أنبأنا ابن عيينة عن الزهري, عن ابن المسيب أن بنت محمد بن مسلم كانت عند رافع بن خديج, فكره منها أمراً إما كبراً أو غيره, فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك, فأنزل الله عز وجل {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراض} الاَية, وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق عبد الرزاق عن معمر, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار بأطول من هذا السياق.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: حدثنا سعيد بن أبي عمرو, حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني, أنبأنا علي بن محمد بن عيسى, أنبأنا أبو اليمان, أخبرني شعيب بن أبي حمزة عن الزهري, أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن السنة في هاتين الاَيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز الرجل وإعراضه عن امرأته في قوله: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراض} إلى تمام الاَيتين, أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها, فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه صلح له ذلك وكان صلحها عليه كذلك, ذكر سعيد بن المسيب وسليمان الصلح الذي قال الله عز وجل {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير} وقد ذكر لي أن رافع بن خديج الأنصاري وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة, وآثر عليها الشابة, فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة, ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها, ثم عاد فآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق, فقال لها: ماشئت, إنما بقيت لك تطليقة واحدة, فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة, وإن شئت فارقتك, فقالت: لا بل أستقر على الأثرة فأمسكها على ذلك, فكان ذلك صلحهما ولم ير رافع عليه إثماً حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما آثر به عليها, وهكذا رواه بتمامة عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه عن أبي اليمان, عن شعيب, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار فذكره بطوله, والله أعلم.
وقوله: {والصلح خير} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني التخيير أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها, والظاهر من الاَية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية, كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة على أن تركت يومها لعائشة رضي الله عنها ولم يفارقها, بل تركها من جملة نسائه وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه, فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام, ولما كان الوفاق أحب الى الله من الفراق. قال: {والصلح خير} بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى, ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه, جميعاً عن كثير بن عبيد, عن محمد بن خالد, عن معروف بن واصل, عن محارب بن دثار, عن عبد الله بن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبغض الحلال إالى الله الطلاق». ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس, عن معروف عن محارب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر معناه مرسلاً.
وقوله: {وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبير} وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن وتقسموا لهن أسوة أمثالهن, فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء. وقوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه, فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة, فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا ابن أبي شيبة, حدثنا حسين الجعفي عن زائدة, عن عبد العزيز بن رفيع, عن ابن أبي مليكة, قال: نزلت هذه الاَية {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} في عائشة, يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها أكثر من غيرها, كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة عن أيوب, عن أبي قلابة, عن عبد الله بن يزيد, عن عائشة قالت: كان رسول الله يقسم بين نسائه فيعدل, ثم يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك, فلا تلمني فيماتملك ولا أملك» يعني القلب, هذا لفظ أبي داود, وهذا إسناد صحيح, لكن قال الترمذي: رواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلاً, قال: وهذا أصح.
وقوله: {فلا تميلوا كل الميل} أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية {فتذروها كالمعلقة} أي فتبقى هذه الأخرى معلقة. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن والضحاك والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان: معناها لا ذات زوج ولا مطلقة. وقال أبو داود الطيالسي: أنبأنا همام عن قتادة, عن النضر بن أنس ؟ عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما, جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط», وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث همام بن يحيى عن قتادة به. وقال الترمذي: إنما أسنده همام ورواه هشام الدستوائي عن قتادة, قال: كان يقال: ولا يعرف هذا الحديث مرفوعاً إلا من حديث همام. وقول: {وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيم} أي وإن أصلحتم في أموركم وقسمتم بالعدل فيما تملكون واتقيتم الله في جيمع الأحوال غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض, ثم قال تعالى: {وإن يتفرقا يغن لله كلاً من سعته وكان الله واسعاً حكيم} وهذه هي الحالة الثالثة, وهي حالة الفراق وقد أخبر الله تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه بأن يعوضه الله من هو خير له منها, ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه, {وكان الله واسعاً حكيم} أي واسع الفضل عظيم المن حكيماً في جيمع أفعاله وأقداره وشرعه.

** وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً * وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيّهَا النّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ ذَلِكَ قَدِيراً * مّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما, ولهذا قال: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم} أي وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى الله عز وجل بعبادته وحده لا شريك له. ثم قال: {وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض} الاَية كما قال تعالى إخباراً عن موسى أنه قال لقومه {إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جيمعاً فإن الله لغني حميد}. وقال: {فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد} أي غني عن عباده, (حميد) أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه, قوله: { ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيل} أي هو القائم على كل نفس بما كسبت, الرقيب الشهيد على كل شيء. وقوله: {إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قدير} أي هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه, وكما قال: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} وقال بعض السلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره. وقال تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد* وما ذلك على الله بعزيز} أي وما هو عليه بممتنع, وقوله: {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والاَخرة} أي يامن ليس له همة إلا الدنيا, اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والاَخرة, وإذا سألته من هذه أغناك وأعطاك وأقناك, كما قال تعالى: {فمن الناس من يقول ربناآتنا في الدنيا وما له في الاَخرة من خلاق * ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاَخرة حسنة وقنا عذاب النار * أولئك لهم نصيب مما كسبو} الاَية, وقال تعالى: {من كان يريد حرث الاَخرة نزد له في حرثه} الاَية, وقال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ـ إلى قوله ـ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} الاَية, وقد زعم ابن جرير أن المعنى في هذه الاَية {من كان يريد ثواب الدني} أي من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك {فعند الله ثواب الدني} وهو ما حصل من المغانم وغيرها مع المسلمين, وقوله: {والاَخرة} أي وعند الله ثواب الاَخرة وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم وجعلها كقوله: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ـ إلى قوله ـ وباطل ما كانوا يعملون} ولاشك أن هذه الاَية معناها ظاهر, وأما تفسيره الاَية الأولى بهذا ففيه نظر, فإن قوله: {فعند الله ثواب الدنيا والاَخرة} ظاهر في حصول الخير في الدنيا والاَخرة أي بيده هذا وهذا, فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط, بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والاَخرة, فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع, وهو الله الذي لا إله إلا هو الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والاَخرة, وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا وممن يستحق هذا. ولهذا قال: {وكان الله سميعاً بصير